غرورٌ من الكويت - 25\2\1992



لعلكِ تسأليني لماذا انقطعتُ عنكِ طوال هذه السنوات , و الواقع انني لم انقطع عنك وحدك ولكني انقطعت عن كل اصدقائي خارج الكويت , ربما لانني فقدت ثقتي بنفسي الى حد اني لم استطع ان اواجه احداً حتى ولو بمجرد تبادل الخطابات أو التحدث بالهاتف ..
وانتي تعلمين كم كنت مغرورة بنفسي خصوصاً عندما اكون خارج الكويت , كنت اقيم من نفسي استاذة على كل مجتمع اجد نفسي فيه , واعطي لنفسي فيه , واعطي لنفسي الحق في توزيع الدرجات على طلبة المجتمع الحضاري , و انا استاذة علم المجتمع في جامعة الكويت , لم اكن اقدر مستوى اي طالب في اي بلد عربي باكثر من صفر .. وانتي ,, انتي وحدك كنت امنحك درجتين من عشر درجات ربما لانني التقيت بك وانا ما ازال طفلة لم استكمل بعد كل عناصر الغرور .. الجمال .. الذكاء.. والثراء المكتسب بالعمل لاثراء الصدفة الذي تحققه ابار البترول , ثم قوة الجذب في كل المجتمعات العالمية التي حققت لي نجاحاً لا تحلم به اي فتاة اخرى .. كل هذا خلق لي الشخصية التي كنت اعتز بها , شخصية الاستاذة ,, الشخصية العبقريه ,, الشخصية التي كانت تمنحني الحق في ان اوزع نصائحي على كل من اقابله , واتصور كل يد تمتد الي كأنها تستغيث بي لانقذها او لاسد حاجتها ..

ولقد ضاع كل شيء....

ضاع غروري ....

اصبحت كلما التقيت باحد يخيل الي انه ينظر الي نظرة اشفاق لا نظرة الاعجاب التي تعودتها ,, و كلما مددت يدي لمجرد المصافحة احس بأنه يستقبلها كانها يد تستغيث به وتستجديه , فاذا تحدث كان حديثه كله دروسا ونصائح .كانه هو الذي اصبح استاذا وانا التلميذه الفاشلة الغبية التي لا تساوي اكثر من صفر

و قاومت ..
قاومت نفسي حتى اظل محتفظة بشخصيتي المغرورة ..
ولكن ..
لا امل .. لم تعد هناك وسيلة للاحتفاظ بهذه الشخصية الا ان انعزل بها .. انعزلت عن كل الناس الغرباء وقد اصبح كل من ليس كويتياً غريبا عني لا يعيش احساسي ولا يتكلم لغتي ولا يفهمني ,, حتى انتي ,, كانت خطاباتك تصلني فاقذف بها بعيداً وانا احاول ان اقنع نفسي بأنني اتعالى عليكي .. وعندما تتحدثين في الهاتف انكر نفسي عنكي كانني ارفضك , لعلي بهذا التعالي والرفض استطيع ان احس بأني مازلت محتفظة بشخصيتي المغرورة , وان كان الواقع هو اني كنت اخاف هذة الخطابات وهذه المحادثات الهاتفية لاني اعلم انها لا تحمل الا مجموعة من النصائح التافهه والاقتراحات الفارغة التي تشبعين بها احساسكِ باستاذيتكِ وترضين بها شهوة الشماتة بي

الشماتة !!!
اني اعيش في احساس بأن العالم كله شامت فينا , كل فرد من بني البشر يتلذذ بما يحدث لنا , يتلذذ بدمائنا التي غرقت بها الوارع وكياننا الذي تهدم , وصراخنا الذي شق قلوبنا , وقد ذرف العالم دموعا شفقة علينا , ولبس شماغاً اسود حداداً على قتلانا ولكن وراء هذه الدموع وهذة الاشمغة فرحة قلب , فرحة شماتة , فرحةٌ سوداء , وربما كانت شماتة الانتقام من سنوات الغرور التي كنا نصبة على العالم , شماتة انتصار الشيء على اللاشيء ,, و قد كنا لاشيء حينها , ورغم ذلك كنا نسيطر على العالم العربي الى ان غزانا ذلك الشيء شيء مجهول , وربما لانه مجهول فقد تفاجأنه به ..
لعل الشماتة التي احسست بها يوماً كانها سكين تذبحني هي شماتة تلك التي كنت اعدها صديقة لي , تلك التي تدعى نافين, انتي تعرفينها بل انتي التي قدمتها لي دون ان تدرين , فنيفين مصرية مسيحية , المهم انها قدمت لي نفسها عندما جاءت الى الكويت على انها مصرية , وانتي التي عودتني ان احس بمسؤليتي على كل شخص غربي , ربما لانك يوما ما كنت مسؤلا عني , عن تكوين عقليتي و فكري , عقلك الغريب عني هذب عقلي الكويتي ولهذا تعودت ان ارد الجميل في كل ماهو غربي,, كان نيفين تبدو مسكينه , فقيرة رغم انها كانت جميلة , وعرفت انها من عائلة غنية في مصر وكان ابوها يمتلك مصنع نسيج ثم فرضت الحراسة عليه وضاعت كل امواله , ورغم ذلك بقى في مصر وبقيت نيفين معه وتحاول ان تغطي حرمانها بان تكتسب صداقة بنات الطبقة المصرية الجديدة , كما حاولت ان تكتسب صداقتي عندما اتت الى الكويت , ولا تدرين ماذا فعلت بنيفين , اني منذ اليوم الاول اقمت نفسي استاذة عليها بحكم غروري بنفسي , وبدأت اقدمها لمجتماعتنا الراقية , وحتى تشرفني كنت اشتري لها الفساتين واعطيها الجوارب وادوات المكياج وارسلها لصالوني الخاص ليعدل شعرها ويرسل لي فاتورتها الحساب , وكانت هي تقدر ذلك وكانت حريصة بأن تحتفظ لي بغروري , وضعت نفسها سكرتيرتي الخاصة , دائما تتأخر عني بخطة الى الوراء , وقد تدهشين لاحساسي بقيمة هذة المظاهر رغم اني كنت فتاة في منتصف العشرينيات من العمر ولا يهمني ان اتظاهر بسكرتيرة تسير خلفي , ولكن هكذا انا ,, او ربما هكذا الكويت , الغرور الحضاري , او ربما كانت هذة هي عقدة اللاشيء,, فان اللاشيء يتظاهر بأنه شيء مهم ,, و نحن كنا لاشيء
ولا شك ان نيفين حققت نجاحاً في الكويت , ولانها مصرية مسيحية فقد تخاطفها الشبان الكويتيون المسلمون فهذه هي عقدتنا ,, الشاب يهمه ان يستولي على اي فتاة غريبة عنه كذلك الحال بالنسبة لبقية الدول ..
وكانت نيفين حريصة على ان تقدم لي كل يوم تقريراً عن كل علاقاتها في المجتمع او مع اي شاب , كأنها تستأذنني او تقنعني انها لا يمكن ان تستغني عني , الا ان تعرفت على شاب من اثرياء الصدفة _ اثرياء البترول _ واستمرت في هذه الصداقة مع موافقتي انا بالطبع ,الى ان عرض عليها ان يأخذها في رحلة الى باريس , ونصحتها ان تقبل
وسافرت نيفين وبقيت حريصة بان تكتب لي , الى ان بدأت الغزو على الكويت , حدث كل هذا الذي حدث , وبدأت نوبة الضياع وفقدان الثقة في نفسي تزحف على صدري , وفكرت ان اسافر الى باريس لارتاح , و كنت اعلم ان نيفين هناك , ولم اقرر السفر الى هناك لانها هناك لانني لا احتاجها , او هكذا اقنعت نفسي , ولكنني شرفتها بأن ارسلت لها برقية بموعد وصولي , ووصلت هناك ولم اجدها في انتظاري , لكني وجدت سائقاً يحمل لافتة مكتوب فيها اسمي ويطوف بها بين الناس , انها لم تحظر ولكنها احضرت سائقها بدلا منها , ماشاءالله والله عال العال يا ستي ورغم ذلك ركبت السيارة وانا اقول للسائق بكل غرور ان يذهب بي الى فندق فخم
فرد السائق ببرود :- السيدة تنتظرك في البيت
يا سلام سلم
جناب الاخت نيفين تنتظرني في بيتها , ولا ادري لماذا سكت وقبلت , ربما تغلبت على الدبلماسية الكويتية , عقلية ادارة الاعمال , ان تاخذ كل زبون وفقاً لشخصيتة
واستقبلتني نيفين وفي عينها نظرة كأنها تستقبل بها فتاة مسكينة فقيرة مشردة , خيل اليها انها نفس النظرة التي استقبلتها بها عندما جاءت من مصر وهي فقيرة مسكينة
وقبلتني كأنها تقبل صديقة مريضة راقدة على سرير في المشفى او ربما كانت قبلة اشبة بالبقشيش تحسن بها على فتاة شحاذة , وقالت وهي تبتسم لي ابتسامة ضعيفة خيل الي انها محاولة فاشلة لمداراة شماتتها فيّ :- كنت انتظرك من مدة و قد خصصت لكي غرفة في البيت قد لا تكون على قدر غرفتك في الكويت ولكنها على الاقل غرفة في بيت
وقلت وانا انظر لها بدهشة :- لقد حجزت في الهيلتون
قالت لي :- لاتكوني عنيدة
وابتشمت كأنني اخفف عن نفسي الم الجراح وقلت محاولة ان احدثها بنفس الاسلوب الذي تعودت ان احادثها به في الكويت :- كيف حال صديقك احكي لي بالتفاصيل
قالت لي ليس هذا مهما المهم انت , اننا سنقيم هنا فترة طويلة و ..
قاطعتها بانني لن امكث هنا سوى ايام معدودة ثم اذهب للكويت
قالت لي وكانها تصرخ:- هل انتي مجنونة؟ الكويت انتهت صدقيني دبري امورك هنا واتركي الكويت
قلت لها:- بل انتي المجنونة , لم ينته شيء وانا لست هنا كمهاجرة ماذا تتصورين هل اصبحنا كالفلسطينيين كتب علينا الهجرةمن بلادنا ان فلسطين اخذها اليهود اما الكويت فلا تزال لنا حتى لو عشنا فيها غرباء , واسمعي , كوني مع كما تعودتي ان تكويني لا شيء تغير
قالت وابتسامة ساخرة على فمها :- كل شيء تغير
وخرجت من بيتها وانا اغلي بالثورة في داخلي
ان الناس تظن اننا وصلنا الى حد الافلاس , انهم لا يعلمون ان سر ثراءنا هو حبنا للوطن , رغم كل هذا الدمار الذي شهدتة الكويت فنحن اقوياء اغنياء اقوى من شماتة الناس فينا..
قضيت اياما وحيدة ثم سافرت الى السعودية ومنها عدت الى الكويت
العودة دائما وابدا اليها ... الى الكويت
انني لا اكتب لكي لانني في انتظار رأيك ولا استجداء لمواساتك ولكن فقط لانني تعودت ان ارتاح وانا اكتب لكي , واحس وانا اطلعك على اسراري كأني القي بها في بئر لا فرار لها , ولكن هل يمكن ان يكون في الكويت كلها مايسمى سراً ؟ لا اظن
ان المجتمع الكويتي عندما قرر التعامل مع الواقع مهما كان مضمونه اراح نفسه من ثقل الاسرار , ولكن الاسرار لها طعمها ولذتها وكنت اتمنى دائما ان يكون لي سر ولاني لا اجد لي سرا في الكويت فقد كنت اكتب اليكي لمجرد اقناع نفسي باني ابوح بسر لامرأة غربية تعيش بعيدا عني
وحكياتي مع ياسر منذ بدأت لم تكن سرا في الكويت حتى لو تظاهرت امامكِ بانها سر خطير اطلعك عليه ..

انا كويتية ,, و هو عراقي

لم اعرفة وانا صغيره ولم يكن يعيش هنا في الكويت. ولكنني التقيت به منذ 5 اعوام في لندن خلال حفل ساهر اعدته الجاعو لنا وخلال اسابيع احس كل منا كأنه مرتبط بالاخر للابد . ولم تمض شهور الا وقد قررت اني لن اتزوج الا ياسر , كان المجتمع قد بدأ يستسلم لحبنا ولم يبق الا الزواج ولم يكم هذا جرما في المجتمع الكويتي , كويتية تتزوج عراقي
الا ان بدأ الغزو ..
وقد بدأ وكان لاشيء يمكنه ايقافه..وفي كل يوم نؤكد عن ايمان بأن كل هذا سينتهي غدا , ان من طبيعتنا التفاؤل وبدأ احس بأحساس جديد .. احساس الخوف ,, اننا لم نتعود الخوف في الكويت
الاحداث تزداد بشاعة ,, الشهداء يسقطون في فريجنا انني مازلت لا اصدق مايحدث , هل هذه هي العراق الصديقة التي ساعدناها في محنتنها !! هل هذا ردها للجميل؟ وصديقاتي اللواتي كن معي في الجامعة !!
و ياسر .. ياسر الذي لازلت اعده حبيبي ,, بل امي بدأت تتعلق به وتكف عن رفضها له ,, لم اكن اعرف شيئا عنه سوى انه في اليوم الذي سبق الغزو اخبرني انه قادم للكويت وانه سيلتقي بي . ,
فكر ابي بالسفر الى خارج الكويت , لكننا رفضنا هذه الفكرة واصرينا على البقاء رغم خوفنا من العدو
لان الذي كان يحدث في الكويت شيء لم نعهده من قبل , انهم لا يكتفون فقط بالقتل ., انهم يشوهون قتلاهم , يمزقونهم قطعا و يعتدون على البيوت , يسرقون ويدمرون , كأنهم جيوش اتت من الخارج وبدأت تدمر كل شيء
وفي ظهيرة احد الايام قررت امي الذهاب الى السوق لشراء بعض الحاجيات ,, وذهبت معها وطوال الطريق كانت تردد بعض آيات من القرآن التي تحفظها وعيناها تلمع لمعاناً غريبا كأنها مقبله على معركة تتحدى بها القدر , وبدت تخطو بجانبي كأنها اقوى مني , منصوبة القامة تدق بقدميها على الارض
اننا نجتاز عرض الشارع الذي يفصل بين منطقتين متقابلتين , اجتزنا اكثر من نصف الشارع ..
وفجأة ...
انظلقت رصاصة ...
ونظرت حولي في دهشة كأني اتعجب ثم صرخت ...
انها امي ...
تترنح وتسقط..
سقطت فوقها ,, لقد ماتت ,, قتلوا امي .. و فوق رأسي رجلان لا استطيع ان اميز وجهيهما من شدة السواد سمعت صوت احداهما يسألني ساخرا :- اهي امك؟
وتركت جسد امي ووقفت صامتة ,, تائهة ,, وكل خلجة مني قد شلت ,, وعاد الرجل يقول وكانة يضحك :-
خسارة ,, كان المفترض ان تكوني انتي
وقال الرجل الثاني :- اتركها سنأخذها معنا
ورد عليه الاول :- انتظر حتى نعطيها شيء يذكرها بأمها
وانحنى على جثمان امي , واخرج سكينا قطع به اذناً من اذنيها ثم اعتدل ووضع اذن امي في يدي
اطبقت يدي على ماوضعه فيها وقطرات من الدم تسري بين اصابعي ,, دم امي
وفجأة ظهر رجل ثالث يجري نحونا وهو يصيح.. مستحيل !!!
ان الغمامة تنزاح من امام عيني واستطيع ان اراه
انه ياسر ... وفوق كتفة السلاح الذي قتل به امي ..
انه واحد منهم !!!
وقف بجانبي واخذ يصرخ بالرجلين الواقفين امامي قال كلاماً لا يهمني ان اسمعه او افهمه
ثم صرخت . وصرخت وابعدت نفسي منه وركضت عائدة من حيث اتيت و سمعته يجري خلفي وفجأة ايضا سمعت صوت رصاصة
سقط ياسر و سقطت بجانبه .. توقفت انفاسه . لقد قُتل الذي قَتل امي
ولكني لا احس شيئا , لم يعد فيّ ما احس به ,, راقدة بجانب حبيبي الذي قتل امي . والطلقات تشتد بين ناحيتي الطريق وكأنها تمر فوق رأسي ,, لا ادري كم مضى من الزمن حتى توقف اطلاق النيران , رأيت رجلا يزحف ناحيتي شدني الى نهاية الشارع ثم وضعني بين زملائة انهم يسألون عني ويطمئنون علي , ولمح احدهم يدي التي كانت مطبقة على اذن امي وصرخ :- الكلاب
ثم انحنى فوق جثة ياسر وقطع احدى اذنيه والقاها بعيدا ثم اخذ يمزق في بقية جسده...
وانحنيت التقط اذن ياسر ووضعتها مع اذن امي في يد واحده ..

*****************

لا تحاولي ان تكتبي لي كأنك تعتقدين اني اسألك عن رأيك ,, رأيك لا يهمني ولا يساوي شيئا ,, انا كويتيه ,, وكل كويتي ليس في حاجة لاحد ولا رأي احد
لقد كتبت اليكي فقط لاستريح ثم القي ماكتبته في سلة المهملات,, اسفة ,, لا اقصد انكي سلة مهملاتي...
على اية حال . لن اعطيكي عنواني لتكتبي لي ,, فقد تركت الكويت
لقد صممت ان اعيش بعيدا عن الذكريات
انا اعيش هنا كما تعودت ان اعيش .. مغرورة .. استاذة في الجامعة ,, وفوق صدري اعلق قالباً من الذهب مرصع بالالماس , وفي داخلة احتفظ بأذن امي و ياسر ,, ان القالب صنعه لي الفرنسي المعروف كارتيه ,, انه تحفة فنية تثير حسد كل البنات
ولا تدري كم كلفني .. لا يهم ... اننا دائما نستطيع ان ندفع .. لم يتغير شيء
و عندما اعود الى الكويت سأدعوكي لتلمسي بنفسك انه لم يتغير شيء
وسأعود
و لن انسى .....





**************************************************









غرورٌ من الكويت
25\2\1992